سالزيان دون بوسكو
( جمعية القديس فرنسيس السالسي)
|
القديس يوحنا بوسكو |
في 31 كانون الثاني 1888، توفّي في مدينة تورينو بإيطاليا الشمالية، كاهن جليل يناهز الثالثة والسبعين من عمره، قضى 46 منه في خدمة الشبيبة، يُدعَى يوحنا بوسكو، المعروف بـ “دون بوسكو”.
كان قد نال شهرة تجاوزت حدود إيطاليا وانتشرت بانتشار أبنائه من رهبان وراهبات، البالغ عددهم آنذاك ما يقارب الـ 1500، في عدّة دول في أوروبا وأمريكا الجنوبية.
وسنة 1934، أي 46 عامًا بعد وفاته، أعلنه البابا بيوس الحادي عشر قديسًا، حينما بلغ عدد الرهبان وحدهم ما يزيد على 10000 راهب.
أما اليوم، عند مرور مئة عام بعد وفاة المؤسّس، فعدد السالزيان تقريب 15000 راهبًا، منتشرون في 130 دولة.
إن دلّت الأرقام على شيء فإنما تدلّ على سرعة انتشار الرهبنة السالسية وتأقلمها في أنحاء العالم كافة وفي البلدان النامية بوجه خاصّ، مما جعل البابا بولس السادس يتحدّث متعجبًا عن “الظاهرة السالسية” في الكنيسة، بينما اشترك البابا يوحنا بولس الثاني في الاحتفالات الجارية بمناسبة اليوبيل المئوي لوفاة دون بوسكو بمبادرات فريدة هي:
-
إعلان “سنة نعمة” للشبيبة، أي يوبيل خاص يمتد من 31/1/1988 إلى 31/1/1989،
-
نشر رسالة بابوية مميزة في “دون بوسكو المربي، أبي الشبيبة”،
-
توجّهه إلى مدينة تورينو وجوارها مدة ثلاثة أيام لزيارة الأماكن التي عاش فيها القديس.
أما الرهبنة نفسها فقد اتّخذت على عاتقها، كما قال رئيسها العام، أن تكون “هذه الذكرى المئوية نداء إلى إعادة اكتشاف روح دون بوسكو وتجسيمه بحماس وإيمان، لكونه منفتحًا على المستقبل، وذلك على ضوء توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني وتطلّعاته … لنبرهن على أن دون بوسكو لا يزال حيًّا بعد مرور مئة سنة على وفاته”.
نشأة الجمعية السالسية
كان دون بوسكو ينظر إلى رسالته التي بدأت منذ صغره بدعوة إلهية خاصة وعبّر مرارًا عن قناعته هذه في أواخر حياته، ذاكرًا المراحل التي مرّ بها والمشقّات التي عانها لتحقيق ما كان الله يدعوه إليه. فمن خلال إصغائه المتواصل لإلهامات الروح ووعيه علامات الأزمنة ومتطلّبات الشبيبة، توصل إلى بناء صرح متلاحم، متعدّد الأطراف والأشكال، لا يزال يثير الإعجاب حتى أيامنا هذه.
ذات يوم من صيف 1757 استقبل الوزير راتاتسي دون بوسكو فدار الحديث بينهما على مشروع “المصلّيات”، أي مؤسّسات دون بوسكو للصبية المشرّدين، والوسائل الكفيلة لاستمراره، فقال الوزير: “في رأي، يجب عليك اختيار بعض العلمانيين ورجال الإكليروس الذين تثق بهم، فتؤلّف جمعية وتدخل إليهم روحك وتبثّ فيهم نظامك، فيكون في الحاضر معاونيك وفي المستقبل تابعيك”.
ابتسم دون بوسكو لهذه النصيحة الصادرة عن وزير كان مسؤولاً عن قانون يقضي بإلغاء عدد كبير من الجماعات الرهبانية، ولكن الوزير نفسه طمأنه قائلاً: “إني أعرف قانون الإلغاء معرفة حسنة، فيمكنك إذًا إنشاء جمعية لا يقوى أي قانون على إلغائها”، مما استرعى تمامًا انتباه دون بوسكو.
حينئذ أدرك أنه يستطيع أن إنشاء جمعية لا تكون عند الدولة سوى “مجموعة مواطنين يتّحدون ويعيشون معًا لغاية الإحسان”. شكر الوزير ومع مرور الأيام تبلورت الفكرة التي كانت تجول في خاطره منذ أعوام وهي إنشاء جمعية رهبانية “في نظر الكنيسة”، يكون أعضائها مواطيون “بالنسبة إلى الدولة”. أما الصعوبة الكبرى التي اعترضته فهي: أيرضى الكرسي الرسولي بهذه الصيغة التي تُحدث ثورة في الأشكال التقليدية لتنظيم الحياة الرهبانية أم يرفضها؟
منذ رسامته الكهنوتية عام 1841 وبموافقة رئيس أساقفة تورينو، كان دون بوسكو يمارس نشاطًا رعويًّا من نوع خاص، يهدف إلى جمع وتنشئة الشبان المشرّدين، يعاونه في ذلك عدد من الكهنة والعلمانيين، وكان الكهنة يؤلّفون معه جماعة يرئسها دون بوسكو نفسه ويُشرف عليها الأسقف.
بدأ دون بوسكو يهتمّ بتنشئة بعض التلاميذ بوجه خاص، حتى اقترح عليهم في أحد الأيام أن يبقوا معه، بدون أن يدعوهم
|
جوفاني كالييرو |
صراحة أن يصبحوا “رهبانًا “، وسبب ذلك أن رئيس أساقفة تورينو كان يشجّعه من ناحية على إنشاء جمعية كهنة يخدمون الأبرشية ويخضعون لراعيها، بينما كان دون بوسكو، من ناحية ثانية، يعي صعوبة إنشاء جمعية رهبانية حقيقية نظرًا لقلّة التقدير الذي كان يتمتّع به الرهبان في تلك الأيام. وهكذا كان التعلّق بشخصه والاقتناع بأنّه رجل الله من أقوى العوامل التي شجّعت بعض تلاميذه على البقاء معه، فلم يتردّد أحدهم، وهو جوفاني كالييرو الذي أصبح فيما بعد أوّل أسقف وأوّل كاردينال سالسي، أن يقول “سواء كنتُ راهبًا أم غير راهب، فإني سأبقى مع دون بوسكو”.
حتى سنة 1859 لم يكن شيء يؤهّل دون بوسكو إلى أن يُعلن نفسه “رئيس رهبنة”، ولم تظهر في جماعته معالم رهبانية واضحة، غير أن هناك ما يشير إلى أن نواة جمعيته الرهبانية قد تشكّلت وحجر أساسها قد وُضِع. منذ بضع سنوات 1854 كان عدد الإكليريكيين اللذين ألبسهم الثوب الكهنوتي، يجتمعون معه في لقاءات متواترة وصفها ميخائيل روا كما يلي: “اجتمعنا عند دون بوسكو … عرض علينا أن نقوم بمحاولة نتمرّن فيها على عمل محبة للقريب بعون من الربّ والقديس فرنسيس السالسي. وسنُبرز وعدًا فيما بعد، ثم نذرًا للرب إذا أمكننا. على اللذين يقومون بتلك المحاولة وعلى اللذين سيقومون بها في المستقبل يُطلق اسم السالسيين”.
في تلك الأثناء توجّه دون بوسكو إلى روما للتشاور مع البابا بيوس التاسع وتلقّى منه تأييدًا وتشجيعًا، بل أغناه البابا بنصائح ثمينة لتحديد صيغة الرهبانية الجديدة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
|
الأب ميخائيل روا |
-
ألا يرتبط أعضائها بوعود بسيطة فقط، بل بنذور رهبانية حقيقية؛
-
تفضيل اسم “جمعية” على اسم “رهبانية”؛
-
أن تكون القوانين مرنة، يسهل العمل بها؛
-
عدم فرض ثوب رهباني خاص؛
-
أن يكون كل من الأعضاء راهبًا حقيقيًّا في نظر الكنيسة ومواطنًا يتمتّع بحقوقه المدنية في نظر الدولة.
لما رأى دون بوسكو أن البابا والوزير العلماني راتاتسي على وفاق، قدّم لقداسته النصّ المختصر للقوانين. لا شيء فيها رهباني تقليدي، بل يدور الكلام على جمعية لرجال الإكليروس والعلمانيين يُبرزون النذور ويرغبون في تكريس حياتهم لخير الشبيبة الفقيرة بدون أن يفقدوا حقوقهم المدنية، لأنهم يحتفظون بملكية ما عندهم حتى بعد إبراز النذور. أمّا في نظر الكنيسة فهم رهبان، لأنهم يمتنعون عن إدارة أموالهم الخاصة ويخضعون لرئيس ويعيشون في جماعة.
فهكذا كان دون بوسكو سباقًا في اختيار صيغة رهبانية جديدة، أصبحت فيما بعد الصيغة المألوفة للرهبنات الحديثة.
انطلاقًا من التأييد البابوي، في 9 كانون الأول 1859 تكلّم دون بوسكو صراحة إلى السالسيين المجتمعين حوله، وجاء كلامه على النحو الآتي: “فكّرتُ منذ مدة طويلة في إنشاء رهبانية، فهذا هو الوقت للانتقال من الكلام إلى العمل. إن الأب الأقدس بيوس التاسع شجّع مشروعه وباركه. لم تُبصر الرهبانية النور هذا اليوم، فقد كانت قائمة في مجموعة القوانين التي عملتم بها دائمًا عملاً تقليديًّا… والآن يجب السير إلى الأمام وإنشاء الرهبانية رسميًّا وتقبّل قوانينها. ولكن اعلموا أنه لن ينتسب إليها سوى اللذين يريدون، بعد ما يفكّرون بجد أن ينذروا في الوقت المحدد نذور الفقر والعفة والطاعة… أترك لكم أسبوعًا لتفكّروا في الأمر”.
فازت الرغبة في البقاء مع دون بوسكو بموافقة الأكثرية وفي مساء 18 كانون الأول 1859 عُقدت “جلسة الانتساب” ولم يغب عنها سوى اثنين من التسعة عشر اللذين حضروا الاجتماع السابق. كان معظمهم في العشرين من عمرهم.
حرر محضر الجلسة واعتبر حقًّا الوثيقة الرسمية الأولى للجمعية السالزيانية الناشئة.
بهذه الخطوة الجريئة قطع دون بوسكو شوطًا كبيرًا، إلا أن صعوبات خارجية بدأت تعرقل حسن سير حياة الجمعية، كما بدأت التساؤلات تُطرح من عدّة جوانب: هل ينتسب تلاميذ دون بوسكو من الإكليريكيين إلى الأبرشية أم إلى الجمعية السالسية؟ كيف يوفّقون بين دروسهم الفلسفية واللاهوتية وأعمالهم الرسولية الموكلة إليهم في مؤسّسات دون بوسكو؟ كيف يتجاسر دون بوسكو ويسجّل بعضهم في جامعة الدولة للحصول على الشهادات الرسمية في حين تضطهد الدولة الكنيسة؟
من الناحية القانونية كانت الأمور لا تزال عالقة، إذ لم يحصل دون بوسكو على موافقة راعي الأبرشية لمعارضة مستشاريه له. فبقيت الجمعية خاصة لبضع سنوات مع أن عدد أعضائها الإكليريكيين زاد باستمرار، لا بل انضم إليهم عدد من العلمانيين أيضًا فسُّموا “الإخوة المساعدين”، لا فرق بينهم وين إخوتهم الشمامسة أو الكهنة إلا فيما يختصّ بالخدمة الكهنوتية في حياة الرهبانية.
أما مسيرة الموافقة النهائية للقوانين السالسية، فهي تتزامن مع تطوّر الجمعية المستمر، بالرغم من العراقيل العديدة. ومنذ
|
البابا بيوس التاسع |
مشروع القوانين الأول سنة 1855 حتى الموافقة النهائية سنة 1874، عاش دون بوسكو عشرين عامًا من العناء والقلق.
هناك أبحاث طويلة ودقيقة، يليها تحرير المسودّة، ثم مراجعة السلطات الكنسية المختصة وتعديل النص وفقًا لمتطلّباتها، بالإضافة إلى المعارضة الشديدة التي واكبت المشروع حتى النهاية. كانت نقطة الخلاف الرئيسية قضية العصمة الرعوية من ولاية الأسقف، إذ كان دون بوسكو يعي تمامًا أن تطوُّر وانتشار جمعيته متعلّقان، لا محالة، بالحرّية الذاتية التي سوف يتمتّع بها.
فأخيرًا، في 13 نيسان 1874، بتدخّل شخصي من قبل البابا بيوس التاسع، وافق مجمع الأساقفة والرهبان على القوانين السالسية بعد أن أُدخلت عليها تعديلات كثيرة، تخصّ أهمّها شكل إدارة الجمعية وعلاقات أعضائها بالسلطات الكنسية وميزات حياة السالسيين الرهبانية وتنشئتهم.
الطابع المميز للجمعية السالزيانية
“كانت هذه الجمعية في بدئها مجرّد تعليم مسيحي”. هكذا عبّر دون بوسكو لاحقًا عن نشأة رسالته، متذكرًا لقاءه الأوّل مع صبي مشرّد في تورينو في 8 كانون الأول 1841 تحوّل إلى نقطة انطلاق مشروعه. استقبله مبتسمًا، اهتمّ بأمره، علّمه إشارة الصليب و”السلام عليك يا مريم” وودّعه قائلاً: “أودّ أن تأتي في الأسبوع القادم ولكن… مع أصدقائك”. فكان ذلك الفتى أوّل سفير لدون بوسكو بين رفاقه العمال الأحداث وأصبح هؤلاء “رعيته” الخاصة، إذ عُني بهم “في الحال” وبكل اندفاع، مستجيبًا لمتطلّباتهم.
والعبارة “في الحال” تشير إلى التدخّل السريع الذي تميّز به دون بوسكو، إذ جعل الضرورة حافزًا على العمل الفوري… لأن الصبيان الفقراء والمحتاجين لا يستطيعون انتظار الإصلاحات الاجتماعية.
انطلاقًا من هذا المبدأ الأساسي، أعطى دون بوسكو الأحداث التعليم الديني والخبز والتدريب المهني وانتظر أن يعدّ غيره الخطط الإصلاحية المتكاملة. ولما بدأ يفكّر جديًّا بمستقبل مشروعه وبتأسيس جمعية رهبانية، لم يحدّد غايتها إلا بهذه الكلمات البسيطة: “العمل في سبيل الشبيبة الفقيرة المهملة المعرّضة للخطر”.
وبما أن حاجات الأحداث وظروف حياتهم تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، أدرك أن جوابه لا بدّ من أن يكون شاملاً ومتنوعًا في آن، يتكيّف مع شتى الحالات. بدأ بمشروع المصلّى في أيام الأحد، ثم أضاف إليه تدريجيًّا بيتاً لليتامى ومدرسة مهنية ومدرسة أكاديمية والمعاهد المنظّمة. ولم يتردّد أخيرًا من أن يفكّر عالميًّا، فأرسل بالتالي أبنائه إلى البلدان البعيدة ليقوموا بكل ما يؤول إلى خير الشبيبة.
سارت الجمعية السالسية على خطى مؤسّسها ليس فقط بكل ما يتعلّق بعلاج مشاكل الشبيبة، بل في مجالات أخرى كان دون بوسكو رائدًا فيها.
تحدّد قوانين الرهبانية رسالتها الحالية على النحو التالي: “بأمانتنا للالتزامات التي أورثنا إياها دون بوسكو، نكون مبشري الشبان ولاسيما أفقرهم ونُعنى بالدعوات الرسولية عناية خاصة وننمي الإيمان في الأوساط الشعبية، خاصة من خلال وسائل الإعلام، ونبشّر بالإنجيل الشعوب اللذين يجهلونه” (المادة 6).
أما أنواع النشاطات والمشاريع فتفصّلها القوانين كالآتي:
-
المصليات (المراكز السالزيانية)، المراكز للشبيبة، المدارس على أنواعها ولاسيما المهنية، البيوت للاهتمام بالحالات الاجتماعية الخاصة؛
-
الرعايا والإرساليات؛
-
المراكز التربوية وللتنشئة الروحية؛
-
وسائل الإعلام على أنواعها: دور النشر للكتب والمجلات والنشرات الدينية والتربوية والترفيهية، إنتاج الوسائل السمعية البصرية كافة، محطات الإرسال (راديو، تلفزيون) (المادة 42-43). تخضع هذه النشاطات والمشاريع لمقاييس معيّنة، تنبثق مباشرة من اختبار دون بوسكو وخياراته الأساسية، وهي:
– تحقيق هدف تربوي ورعوي في آن؛
– الإصغاء إلى حاجات البيئة والكنيسة من خلال إدراك علامات الأزمنة؛
– روح المبادرة والمرونة؛
– التأقلم مع عالم الشبيبة، مع الحفاظ على حضور تربوي مميز بينهم.
الروحانية السالزيانية
كتب مؤخرًا البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة مرور مئة عام على وفاة دون بوسكو ما يلي: “إنه صاحب روحانية عميقة جعلت موقعه كقديس مميزًا بين كبار مؤسسي الرهبنات في الكنيسة، إذ تفوق في جوانب عدة. فهو مبتكر مدرسة روحية رسولية جديدة وجذابة، وهو محرّك إكرام خاص لمريم العذراء، أم المعونة وأمّ الكنيسة، وهو شاهد صادق وجريء على شعور كنسي أصيل، (…) ورسول واقعي وعملي (…)”.
ثم يستطرد قائلاً: “يسرّني أن أرى في دون بوسكو حقّق خصوصًا قداسته الشخصية من خلال التزامه التربوي المتحمس وقلبه الرسولي. فطرح القداسة في الوقت ذاته هدفًا لأسلوبه التربوي وبدقة، فإن التفاعل بين “القداسة” و”التربية” هو أبرز مميّزات شخصيته. إنه المربي “القديس” الذي استوحى من فرنسيس السالسي “القديس” نموذجًا اقتدى بقداسته، وهو تلميذ لمرشد روحي “قديس” هو الأب جوزيف كافاسّو، ومن بين تلاميذه نشأ تلميذ “قديس” هو دومنيك سافيو”.[11]
1 ) الشعار: في كلمات البابا السامية موجز لروحانية دون بوسكو وبالتالي لروحانية أبنائه السالزيان ويعبّر عنها
|
“أعطني النفوس وخذ الباقي” |